تواصل نسرين فندي مشروعها «حرف للقراءات المسرحية» الذي كانت قد أطلقته صيف العام الماضي في «خان أسعد باشا» بدمشق القديمة، مفتتحةً بعرض «الشقيقات الثلاث» للكاتب الروسي «أنطون تشيخوف» ولتكمله اليوم بعرضٍ قرائي سادس عن نص توفيق الحكيم «نهر الجنون» بعد أن كانت قد قدمت عدة عروض في قلب أسواق البلدة القديمة، كان أبرزها: «كليلة ودمنة» (فصل الأسد والثور) لابن المقفع، و «خطبة لاذعة ضد رجل جالس» (غابرييل غارسيا ماركيز)، و»العميان» (للبلجيكي موريس ميترلنك).
المشروع الذي تنتجه «مديرية المسارح والموسيقى» ذهب في تجاربه الست إلى استبدال مفهوم المسرحية التقليدية نحو ما يشبه التفكير الجماعي بالنص، والانتقال به من حالته الأدبية الخرساء إلى مستويات جديدة من الأداء المرتكز أساساً على ارتجال الممثل، وقدرة هذا الأخير على تضمين حوارات الشخصيات إسقاطات مباشرة على واقع الحرب السورية، في محاولة لمسرحة ابتعدت فندي فيها عن كتل الديكور وورش الأزياء وتجهيزات الإضاءة، منكبّةً مع كل من روجينا رحمون ومجدي مقبل وسامر خليلي وماهر أبو مرّة في «نهر الجنون» على تقديم تجربة تحاكي لسان حال السوريين، وتبادلهم لتهمة الجنون، حيث شرب الجميع من النهر الذي يُذهب الصواب، جاعلاً من أبــناء البلد الواحد خصوماً وأعداءً.
خروج عن السياق
جاء هذا في سياق الخروج عن حذافير النص، معتبراً في «عروض القراءة» هذه زمن البروفة بمثابة الزمن الأصلي للعرض المسرحي، إذ تنتفي البنية المتعارف عليها للمسرحية، لتصير نوعاً من التدريبات أمام الجمهور، على شرط الإبقاء على المؤشرات النصية والملاحظات الإخراجية للكاتب كجزء من تغريب المتفرج عن واقع الشخصيات، ومحاولة ملحمتها بشكل يسمح لهذه اللعبة بالاستمرار من دون كسر الإيهام إلا من خلال القراءة والقليل من التبنّي لمنطق الشخصية وصراعها مع بقية الشخصيات على الخشبة، وذلك من غير النفاذ إلى عوالم الدور الداخلية أو الاستغراق في محنته، بل بنفي مستمر ودائم لمعنى الصراع، وترسيخ النمط القرائي بين اللغة والكلام، فالممثل يستطيع الدخول إلى النص والخروج منه بحيوية وذكاء، متنقلاً بين زمن المسرحية الأصلي، والزمن الراهن، بغية تحقيق معادلة المسرح الخالدة (نحن ـ هنا ـ الآن ـ الآخر). جاء ذلك في التلميح الذي طرحه العرض في إيجاد حل لأزمة الملك ووزيره حين فكرا بمواجهة المملكة التي شرب رعاياها من نهر الجنون: «إما الموت أو الهجرة إلى ألمانيا»!
«الكراسي» ليوجين يونيسكو و «برلمان النساء» لأريستو فانيس هما العرضان القادمان لمشروع «حرف» الذي يتابع عروضه بعد توقفه عقب الحريق الهائل الذي اندلع في سوق «العصرونية» الأثري في نيسان الماضي، ليصرّ القائمون على مشروعهم كخطوة نحو جعل المسرح جزءاً من نشاط الأسواق الدمشقية العريقة، فعلى مقربة من سوقي «البزورية» و «الحميدية» ينتصب المسرح في فضاء الخان القديم، جنباً إلى جنب مع محال العطارة والحلويات التقليدية، معيداً ذكريات «مرسح خان الكمرك» لأبي خليل القباني الذي أحرقه الغلاة 1883م بعد اتهام رائد المسرح السوري بترويج «الرذيلة».
يأتي اليوم مشروع «قراءات» ليعيد الصلة بجمهور الصدفة، وتوريط شرائح جديدة لمتابعة العروض المسرحية، بعيداً عن صالات العرض التقليدية، ونحو أماكن بديلة خصصتها المدينة لحركة البيع والشراء، إلا أن ذلك بقي خجولاً برغم أنه واعد فما زال جمهور مسرحي «الحمراء» و «القباني» هو ذاته من يقبل على القدوم لحضور عروض «حرف» من دون أن ينجح في التأثير على شرائح جديدة، وهذا ما تؤكده فندي في حديثها لـ «السفير» إذ تقول: «نتعرض لصعوبات كثيرة للاستمرار بمشروعنا، يأتي أبرزها عدم تعاون مدير الخان الجديد معنا، حتى أننا دفعنا مبلغاً صغيراً (3000 ليرة سورية) لحارس الخان كي يفتــــح لنا أبواب المكان يوم الجمعة لإجـــراء التدريبات بعد أن هددنا بكسر قفل الباب وتعطيل البروفة».

(دمشق)